التحرش المعنوي بالمستخدمين و الحكامة - قضية متابعة مسيرين سابقين لشركة "فرانس تلكوم"

نشر بتاريخ

عاشت مؤخرا ردهات المحكمة الجنحية بباريس أطوار محاكمة تاريخية انتهت يوم 11 من الشهر الجاري للنطق بالحكم يوم 20/12/2019 ستضع لأول مرة في تاريخ القضاء الفرنسي لبنة اجتهاد قضائي يتناول موضوع التحرش المعنوي في بيئة العمل نتيجة ممارسات مسيري المقاولة .

يتابع في القضية ستة من المسيرين السابقين لشركة ” فرانس تلكوم ” التي أصبحت تدعي” orange ” سنة 2013 وجهت لهم النيابة العامة تهمة التحرش المعنوي و المشاركة ، و هي الافعال التي كان يعاقب عليها القانون الجنائي الفرنسي ، بتاريخ ارتكاب الفعل الجرمي ، (ما بين سنتي 2007 و 2010 ) بسنة حبسا و 15.000 أورو غرامة ، قبل مضاعفة العقوبة بتعديل حاصل بتاريخ 06/08/2012 (المادة 2/33/222 ).

حظيت المحاكمة بحضور جمهور غفير من المتتبعين ، أغلبهم من ذوي الانتماءات السياسية الرادكارية و النقابية ، و مثقفين و مبدعين ، نذكر منهم الكاتب الآن دحصيو الذي كان يحرص على كتابة تعاليق يومية عن مجريات و وقائع المحاكمة لفائدة نقابة متعاطفة مع الضحايا ، و ارتكزت حملة التضامن معهم على الابعاد الإنسانية التي تكتسيها القضية ، كما فضحت الانعكاسات السلبية لسياسات كبار مسيري الشركة المذكورة التي لم تمنح أي اعتبار لتلك الأبعاد سيما بعد تواتر حالات انتحار عديدة ذهب ضحيتها 39 اطارا من شركة ” فرانس تلكوم ” اثر قرار أجهزتها التسييرية المتخذ خلال اجتماع 20/10/2006 بتسريع وثيرة برنامج إعادة هيكلة الشركة ، من أجل تحقيق ما يصطلح عليه كلاش فلو و هو مؤشر مالي يتعلق بالانسياب المالي لشركة معينة يمكنها من معرفة مدى امكانية تحقيق أرباحها بمراعاة موجوداتها المالية في الخزينة ، و يحدد استراتيجيتها المستقبلية بناءا على معطيات تهم أمور التدبير المالي للشركة.

و للوصول الى تلك الغاية طبق مسيرو الشركة برنامجا دقيقا يشتمل على سياسة صارمة لزعزعة الاستقرار النفسي للمستخدمين بهدف دفعهم لمغادرة الشركة .

تم فضح تلك الممارسات العنيفة معنويا من خلال تصريحات ذوي الضحايا ،نذكر منهم الشهادة المؤلمة و المؤثرة للسيدة نويمي لوفرادو نيابة عن عائلة الهالك رومي لوفرادو الذي انتحر بإشعال النار في نفسه ، حينما صرحت للمحكمة أن شركة ” فرانس تلكوم ” حطمت حياة أبيها دون أن تترك له أي منفذ آخر.

و توجهت بالكلام الى الرئيس المدير العام السابق للشركة ديديي لومبار : نحب أبانا ، و لقد قتلتموه ، هذا كله لماذا ؟ .

الضحية سالف الذكر كان قد التحق بالشركة سنة 1979 و ارتقى في عمله الى أن أضحى إطارا مهما ، و بوغت سنة 2006 بحذف منصبه ، و التحق بمنصب مراقب داخلي بإحدى وكالات الشركة التي غادرها مرة أخرى بسبب إكراهات مالية .

أعيد تشغيل الضحية وأنيطت به عدة مهام حتى سنة 2010 حيث اسندت إليه وظيفة ثانوية دون هاتف و لا مكتب، في ظل أوضاع مزرية ، الأمر الذي أدى به الى الاصابة بمرض الاكتئاب ، و معاناة من الاحباط ، دفعاه الى الانتحار يوم 26/04/2011 بإضرام النار في نفسه.

مع الاشارة أن الضحية سالف الذكر كان قد وجه سنة 2009 لمشغله والمساهم الرئيسي في الشركة ، أي الدولة الفرنسية ، رسالة تم نشر نصها في جريدة “مديابار ” بتاريخ 27/04/2011 شرح فيها تفاصيل معاناته من التهميش ورميه إلى المزبلة بعد أن أضحى زائدا، كما سلط فيها الضوء على حالات الانتحار للعديد من المستخدمين و سيما الإطارات منذ سنة 2006 و ختم كتابه بما ينطق بتحذير لافت ” الانتحار هو الوسيلة التي تبقت “.

و أوضحت ابنة الضحية سالفة الذكر أن عائلته لاحظت ما طرأ من تغير على سلوك أبيها الذي نتج عن ضغوط و ظروف العمل المهينة التي تعرض لها من طرف رؤسائه ، فأضحى منكمشا على نفسه دائم التشكي من التعب و المرض ، و اختار الصمت التام أثناء اجتماع العائلة على مأدبة الطعام بخلاف عاداته كوسيلة لتفادي شرح أسباب و ظروف معاناته في العمل ، فتحول الى أب من الناحية الجسمانية فقط كما قالت ، فكافأته الشركة بحذفه من صفوف العمل حسب تعبيرها المرير . و ختمت تصريحها بالقول و هي تنظر الى مسيري شركة ” تلكوم ” الحاضرين : ” لقد اغتالو أبي ، لقد قتلوا حياتنا العائلية ، و إدعوا لاحقا أنهم لو يكونوا يعلمون ” .

استمرت جلسات المحاكمة على مدى شهرين و نصف يتابع فيها سبعة مسيرين سابقين لشركة ” فرانس تلكوم ” ، من ضمنهم الرئيس المدير العام ، و استعانت المحكمة بإفادات أطباء نفسيين و خبراء في علم الاجتماع لتكوين قناعتها و إنارة سبيلها لإصدار حكم عادل في هذه النازلة التي تخفي تشابك عناصرها بين النجاعة الاقتصادية في تدبير جيد للحكامة التي تتطلب تحقيق الربح و تجاوز شراسة المنافسة ، و مجاراة أثار الوتيرة السريعة لتقدم التكنلوجيا ، و بين العدالة الاجتماعية و السعي الى استقرار سوق العمل و تكريس حقوق العمال بما من شأنه أن يضمن السلم الاجتماعي .

اهتمت ممثلة النيابة العامة بالمعطى المذكور المؤثر على مسار المتابعة ، و منحته العناية اللازمة في ملتمسها الذي تقدمت به أمام المحكمة و الرامي الى الحكم بأقصى العقوبة سنة حبسا و 15 ألف أورو وغرامة لثلاث مسيرين بينما التمست الحكم على مسيرين مكلفين بالموارد البشرية بثمان أشهر حسبا و 10 ألف أورو وغرامة فضلا عن غرامة بمبلغ 75 ألف أورو كغرامة .

و هكذا ميزت ممثلة النيابة العامة ، من جهة ، بين جانب النصوص المتعلقة بشركة “فرانس تلكوم” التي طبعت مجموع تدخلات مسيريها السابقين خلال المحاكمة ، حسبما أوردته صحيفة ” ميدي بار ” 6/7/2017 ، و من جهة أخرى ،بين حقائق الملف الناطقة التي دفعت بالأدمغة المفكرة في الشركة الى تنظير ما قد يمكن تسميته ” عدم الاستقرار البناء ” بالنسبة للمستخدمين عبر ممارسة أعلى درجات الضغط لدفعهم إلى مغادرة عملهم .

و انتهت الى خلاصة مفادها قيام أركان فعل التحرش المعنوي في حق المتابعين لانتهاجهم سياسات معينة ذات صبغة التحرش المعنوي ارتكبت بمناسبة إدارته الحكامة في ميدان تنظيم الشغل ، و هو الفعل الذي يمكن تسميته ” التحرش المعنوي المرتكب بمناسبة الحكامة “.

بينما ركز دفاع المتهمين على الجانب الاقتصادي و المالي للقضية و على شبح الكارثة التي كان يهدد شركة ” فرانس تلكوم ” من هذه الزاوية . و حسب جريدة لوموند بتاريخ 13 من الشهر الجاري فقد صرح أحد محامي المتهمين ، ” أن هناك مهن تختفي ، و أنه ينبغي خلق مهن أخرى ، و ينبغي التكييف مع هذا الواقع ، و لهذه الغاية يتعين العثور على وسائل للاستثمار ، أنتم تصرحون أنه ينبغي إزاحة ” كاش فلو ” لكن ينبغي التوجه الى البرلمان في هذه الحالة . إن القاعدة التي يقوم عليها القانون التجاري هو حرية تسيير المقاولة ، و خاطب المحكمة ” أنتم لستم قضاة ” ” كاش فلو ” و لستم قضاة قرارات التسيير ” كما خاطب ممثلة النيابة العامة بالقول ” أنت هنا لتكوني مناضلة للعمل على تطبيق القانون الكائن و ليس قانون آخر محل حلم ، و الحال أن النيابة العامة في وئام مع النقابات عملت على الرمي ببالون تجربة لتغيير القانون .

و أن القانون الجنائي المعمول به يعرف ” جنحة التحرش المعنوي ” دون التحرش في نطاق الحكامة ” .

و اختتم الاستاذ جان فيل مرافعته بالتذكير بما ورد في كلمات الرئيس الأول لمحكمة النقض جاك ديكرندي سنة 2013 الذي دق أجراس الانذار لما أسماه بالظاهرة المتزايدة الممنوحة للضحايا في المحاكمة الجنائية بقوله ” إن تصنع الشقاء بهدف تفضيل معاناة الضحايا من شأنه تحريف العدالة الجنائية و تحويلها إلى مجرد أداة انتقام جماعي و فردي “.

لعل أهم الخلاصات التي يمكن الوصول اليها من خلال متابعة أطوار هذه القضية التي غطي تفاصيلها ، الاعلام الفرنسي باهتمام شديد ، هو مدى الآثار السلبية التي قد تعصف بصحة المواطن الجسمية و توازنه النفسي من جراء مختلف أنماط الممارسات التي قد يسلكها المشغل في مواجهته ، في نطاق تحقيق حكامة متوازنة و ناجعة تكفل لمقاولته تحقيق المزيد من الربح في ظل مناخ تنافسي يزداد شراسة و تعقيدا ، و من ثم يجدر التفكير في هذا الجانب في محاولة لإيجاد حلول لتفادي هذه الآثار السلبية بإعتبار أن بناء وطن قوي لا يمكن أن يتم في ظل مواطن ضعيف و منهك بسبب معاناته القاسية من ظروف عمله .

عبد اللطيف مشبال
← الرجوع إلى جميع المقالات