الرأي المخالف للقاضي والمادة 16 من قانون التنظيم القضائي - المحور الاول

نشر بتاريخ

مقدمة:

ينص الفصل 111 من الدستور علي ان للقضاة حرية التعبير بما يتلائم مع واجب التحفظ والأخلاقيات القضائية ، مراعيا في ذلك ان القاضي كائن بشري من حقه التمتع بما تخوله القوانين لكل مواطن من حرية التعبير وإبداء الرأي في نطاق الحدود الموما اليها، فاضحي من القواعد القارة ان القاضي في حاجة ماسة لتلك المساحة ” التعبيرية” لما في ذلك من انعكاس إيجابي علي ممارسة الأفراد حرياتهم ، مثلما تضمنته العديد من المواثيق الدولية ذات العلاقة بالقضاء، ومن ثم استقر الاجتهاد القضائي الفرنسي في اتجاه تضييق مفهوم التحفظ سالف الذكر لفائدة توسيع دائرة حرية القاضي.

علي ان هذه الحرية المتنامية المؤكدة باجتهاد قضائي رفيع ، وهذا هو وجه الغرابة، تختفي من متن حكمه، عملا بمبدأ سرية المداولة المتوارث من المدرسة القانونية الفرنسية التقليدية المستمدة من الموروث التاريخي الفرنسي ، باعتبار ان القاضي كان قديما يعلن عن إرادة الملك فلا يمكن بالتالي ان تكون سوي إرادة واحدة، واحكام القضاة تعكس هذه الإرادة بصفة جماعية، وترتبط بثقافة “سرية” تتمثل في جمع الدولة والدين ،فعلي الرغم من ان فرنسا دولة علمانية الا أنهالا زالت محافظة علي سرية المداولة بالمدلول الديني، وتلزم قضاتها علي تأدية قسم الولاء لهذا المدلول.

ومن البين بالملموس ان تنظيمنا القضائي ظل دوما منحازا الي نفس الطروحات المشار اليها، وتنظبط اليه هيآت الحكم خلال المداولة التي تعتبر فترة حاسمة، وأزعم انها مرحلة خطيرة ، في حياة الخصومة القضائية التي ينزو ي خلالها القضاة لدراسة أوراق ملف القضية النزاعية المعروضة علي أنظارهم ، وفحص كل جوانبها القضائية والواقعية ليخلصوا في الخاتمة الي إصدار حكمهم.

هذا الحكم الذي هو عَنْوَان الحقيقة يفترض ان يعكس اجماع آرائهم او توفر أغلبية غير معلومة ،علي نقيض نظام علنية المداولة واشهار الرأي المخالف لمنحي الحكم تقديرا من اصحاب هذا الرأي علي أهمية العمل القضائي وقيمته الذي يجب معه إحاطة القاضي بكل الضمانات الكفيلة بالتعبير عن رأيه القانوني في صلب حكم شارك في إصداره.

حول الفصل 16 من قانون التنظيم القضائي:

لعله غني عن البيان القول ان من ضمن اهم مستجدات قانون التنظيم القضائي ما تضمنته المادة 16 منه التي نصت علي ما يلي:

” تصدر احكام قضاة هيئة القضاء الجماعي بالإجماع او بالاغلبية بعد دراسة القضية والتداول فيها سرا ، وتضمن وجهة نظر القاضي المخالف في محضر سري خاص موقع عليه من قبل أعضاء الهيئة ، يحتفظ به رئيس المحكمة المعنية ضمن سجل خاص يحدث لهذه الغاية، ولا يمكن الاطلاع عليه من قبل الغير ، الا بناء علي قرار من مجلس السلطة القضائية.

يحتفظ بالمحضر المذكور لمدة عشر سنوات من تاريخ انجازه ، ويعتبر الكشف من مضمونه للعموم باي صيغة كانت خطئا جسيما، يحفظ المحضر بعد هذه المدة لدي ارشيف المغرب”

هذه المادة التي تؤسس في اعتقادي لمسار جديد في فهم مدلول المداولة والميكانزمات المصاحبة بالضرورة لاصدار الحكم، ولئن اتسمت بالمحدودية، وصراحة ، اتسمت بالاحري بالخجل حسب تعبير القاضي الفذ ذ . وردي في تعليقه علي نفس القانون ، اذ ظلت اسيرة تفكير هياة التفتيش القضائية التي يمكن لأحد أعضائها الاطلاع علي الرأي المخالف عند الاقتضاء..

ونظرًا لاهمية هذا المقتضي، وما هو مأمول من كل تنظيم قضائي يفترض فيه تحسين اداء القضاء لدوره لحماية حقوق الأفراد والجماعات في تعاطي إيجابي مع مضمون المواثيق الحقوقية العالمية ، والحفاظ علي حقوق المتقاضين، فقد ارتأيت تقديم هذه الملاحظات المتواضعة بهذا الشأن مع الاعتراف والتنويه بسلامة جملة ملاحظات ذ الوردي سيما علي مستوي ترهل القانون ، علي ان أضيف لاحقا ملاحظات إضافية في ورقة اخري.

اولا : حول سرية المداولة:

يلاحظ بالتمعن في المقتضي المشار اليه ، انه ابقي علي مفهوم سرية المداولة، بمعني الإبقاء علي الستار العازل الذي يحول دون تعرف المتقاضين والعموم علي الاّراء التي يفصح عنها القضاة أعضاء الهيئة القضائية الحاكمة ،خلال المداولة،باعتبارها معلومات سرية، وهو ما قد يبدو متعارضا مع مبادئ الديموقراطية التي تستوجب الشفافية، وتفادي مظنة الشك المبرر للسرية.

ويبدو من سياق الفصل 16 المذكور وتفحص مبناه ان واضعي قانون التنظيم القضائي حاولو قدر الإمكان التوفيق بين مفهومين متناقضين ، اذ ينحي المفهوم الاول الي الإبقاء علي سرية المداولة، وبين المفهوم الثاني الذي يتأسس علي الشفافية ، بمراعاة ان القاضي يؤدي قسما عند تعيينه بالسلك القضائي ، وقبل الشروع في مهامه، علي المحافظة علي سرية المداولة، تحت طائلة متابعته تأديبيا لارتكابه خطامهني من هذه الجسامة.

هذا علي الرغم من ان الفصل 119 من الدستور يجعلل الاحكام النهائية ملزمة للجميع، الامر الذي يبرر ان يتاح لكل ذي شان حق الاطلاع علي ظروف إصدار تلك الاحكام، هل تمت بالاغلبية ام بالإجماع، سيما معرفة فحوي الرأي المعارض ، وهو ما ينسجم مع مقتضي المادة10 من الاتفاقية الدولية المتعلقة بمحاربة الفساد المصادق عليها من المغرب والمنشورة بالجريدة الرسمية بتاريخ 17/1/2008 التي تنص علي ان لكل دولة منضمة للاتفاقية اتخاذ كل الاجراءا ت التي تمكن الناس من الحصول عند الاقتضاء علي معلومات عن كيفيةتنظيم ادارتها العمومية واشتغالها وعمليات اتخاذ القرارات فيها، وعن القرارات والصكوك القانونية التي تهم عامة الناس( الفقرة الاولي)،،باعتبار ان الاحكام صكوك قانونية تصدرها محاكم السلطة القضائية.

حول عيوب الصياغة :

وذلك باعتبار ان مقتضي المادة 16 محل هذا التعليق تضمنت التنصيص التالي:

“تضمن وجهة نظر القاضي المخالف في محضر سري خاص موقع عليه من قبل أعضاء الهيئة ..”

يفهم من سياق هذا النص ان القاضي ذي الرأي المخالف لأغلبية القضاة قد عبر عن رأيه خلال المداولةوافصح بمقتضاه عن وجهة نظره التي تلمس سواء منطوق الحكم او اسبابه، او هما معا، وتقتضي قواعد البداهة ان تتاح له فرصة التعبير الشخصي عن كنه رأيه المخالف في صك مكتوب بخط يده ، وهذا بخلاف ما جاء في النص المذكور الذي يشير، بدلا من ذلك، الي تحرير محضر يتضمن وجهة نظر القاضي المخالف، الامر الذي يعني ان هناك جهة هي التي تتولي القيام بهذه العملية، دون تحديد لها،،هل رئيس الهيئة ،، ام جميع القضاة ،،؟

وإذا كان النص لا يمنح للقاضي المخالف امكانية تحرير ورقة بخط يده تتضمن وجهة نظره في النزاع المطروح علي المحكمة ، بدليل ان النص يتحدث عن المحضر ( الموقع عليه من طرف جميع أعضاء الهيئة الناظرة)فان أشكالا حقيقيا سيحصل في هذه الحالة عند تضمين المحضر لرأي وبيانات بشأن المسالة الخلافية لا يتفق معها القاضي المعني، وهو ما سيعني ان تحرير الوثيقة ( المحضر) سيكون دون جدوي في العديد من الحالات.

وتفريعا عن هذا التحليل اعتقد انه كان من الاجدي التنصيص بدقة علي الزام القاضي المخالف بتحرير وثيقة بخط يده تتضمن وجهة نظره التي يتذرع بها في تأسيس رأيه.

كما ان المادة محل التعليق تشير الي امكانية الاطلاع علي المحضر المذكور من قبل الغير دون اي تحديد لهويته، هل المقصود أطراف الدعوي، وهو امر مستبعد لأنهم ليسوا اغيارا، ام كل طرف ذي مصلحة بما يشمل الغير المخول له الطعن بتعرض الغير الخارج عن الخصومة،،او حتي من قبل الجميع المشار اليهم في الفصل 126 من الدستور باعتبار ان المادة محل هذا التعليق أتت لاحقة للمادة 15 التي اعادت التذكير باحكام القاعدة الدستورية المشار اليهاالتي تنص علي ان الاحكام النهائية ملزمة للجميع،، علي الرغم من ان مشرع قانون التنظيم القضائي ضيق من نطاقهابجعلها قاصرة علي الاحكام القابلة للتنفيذ ، اي تلك السارية في مواجهة أطراف الخصومة دون الجميع، ما دام ان باب التنفيذ لا يمكن ولوجه سوي من طرف حامل لصك تنفيذي يخوله ممارسة إجراءات التنفيذ الجبري في مواجهة محكوم عليه معين، وفِي هذاخرق واضح لقاعدة دستورية.

ثم ان المادة 16 المذكورة اشارت الي سجل خاص يحدث لغاية تضمين محضر الرأي المخالف المشار اليه سالفا ويحتفظ به لدي رئيس المحكمة دون ان يخلع عليه صفة السرية بخلاف حال المحضر،،فيكون، ومن باب تحصيل الحاصل ذي صبغة علنية، ومن ثم يحق لأي طرف في الخصومة، بل ولأي ذي مصلحةالاطلاع علي هذا السجل للتيقن من وجود راي مخالف من عدمه في نازلة معينة، باعتبار ان السرية لا تشمل سوي المحضر المذكور.

وفِي نطاق القانون المقارن ، قد يجدر التذكيرالي ما تضمنته المادة 89 من قانون تنظيم المحاكم بالتشيلي التي تلزم كل محكمة مسك سجل يتضمن راي القضاة المعارضين لرأي أغلبية زملائهم ، مع بيان أسباب تصويتهم المعارض، علي ان يحفظ في كتابة المحكمة حتي يمكن لكل ذي مصلحة الرجوع اليه.

وفِي سياق مشابه نصت المادة 260 من قانون السلطة القضائية الاسبانية ، علي ان من حق القاضي المخالف ان يعبر عن رأيه موقع عليه من طرفه يدون في سجل الاحكام ويبلغ للاطراف رفقة الحكم الموافق عليه من طرف الأغلبية،ويمكن نشرهما معا في حالة مخالفة النشر للقانون، دون ان يرتب أدني اثر علي الحكم الصادر بكيفية نظامية من طرف قضاة الأغلبية مثلما يتفق عليه كبار شراح القانون الإجرائي الاسباني.

ونظرًا للأهمية البالغة لمقتضي المادة 16 المذكورة لاتصالها الوثيق بحقوق الدفاع ، وللخلاف الواقع بين الاتجاهين القائميين اي بين أنصار المدرسة الإنجلوسكسونية ، وانصار مشايعي المدرسة الفرنسية ،( القانون المدني )سأحاول التطرق بنوع من التفصيل الي الموضوع لاحقا، مع الاعتراف مسبقا بوعورة مسالكه.!

عبد اللطيف مشبال
← الرجوع إلى جميع المقالات