الرئيس الفرنسي يلبس سترة الإنقاذ

نشر بتاريخ

تكشف الأحداث التي شهدتها فرنسا مؤخرا، بما في ذلك التظاهرات التي اندلعت الْيَوْمَ ، ولو بشكل محدود، علي حدة صراع طبقي تخوضه جماعات الستائر الصفراء، كرد فعل قوي ضد عولمة ازدادت توحشا بظهور الثورة الرقمية الكاسحة، وسيطرة رساميل مالية ضخمة علي الاقتصاد، مما نتج عنه عالم يزداد غني أغنيائه وفقر كادحيه، فحركة تلك الجماعات تتوجه ضد هذا العالم الذي لا يُؤْمِن للمواطن الفرنسي لقمة عيش كافية حتي نهاية الشهر.ويعود لها الفضل في إبراز عمق الأزمة التي تتخبط فيها الديموقراطية البرلمانية، وانعدام الثقة بين المواطن ومن يمثله في البرلمان.

من الواضح ان الرئيس ماكرون اضطر للرضوخ ، جزئيا لمطالب المحتجين، بعد ان ثبت له عقم بل وخطورة تجاهلها،علي النظام السياسي، وعليه شخصيا، كما يتجلي من خطابه الاخير الذي وجهه للشعب الفرنسي.

هذا الخطاب الذي أعلن فيه عن مبادرات تروم رفع اجور العمال الاشد فقرا، وعن تخفيضات ضريبية للمتقاعدين، ورفع الحد الأدني للاجور بمائة اورو شهريا ابتداءا من فاتح السنة القادمة،دون فرض تكاليف ضريبية إضافية علي ارباب العمل، والغاء الزيادة في ضرائب الضمان الاجتماعي للمتقاعدين الذين يتقاضون اقل من الف اوروشهريا، وكذا عن الساعات الإضافية، وهي إجراءات تم اعتبارها من المختصين انها مجرد مبادرات اجتماعية ،لا ترقي الي تحول اجتماعي بعيدة عن طموحات المحتجين ومطالبهم.

ويبدو ان الرئيس لم يعر اهتماما لمطالب حركة الستائر الصفراء المطالبة بتوزيع عادل للمداخيل الضرائبية ، وتنديدها الصارم بقرار الحكومة بإلغاء ضريبة الثراء، وإعدادها برنامج اعفاء ضريبي يرتب استخلاص ارباب العمل ما لا يقل عن أربعين مليار اورو خلال السنة القادمة، مقابل اثقال ذمة نحو ثلاثة ارباع الفرنسيين ذوي الدخل المتوسط والضعيف بزيادات تفوق 30%.

وبدلا من الاستجابة لمطلب رئيسي للمحتجين الكامن في اعادة توزيع منصف للفرض الضريبي علي الملزمين بحسب دخولهم ،فقد نحي الرئيس الفرنسي الي تحميلها الي الخزينة العامة ثقل تكاليف الإجراءات التحفيزية التي اعلن عنها، دون اي اكتراث يذكر لتحذيرات المختصين من النتائج السلبية لاجراءاته المعلنة نظرا بانعكاساتها السلبية علي خدمة الدين العام وما يرشح الي تفاقمه، الامر الذي سيؤدي بالسلطة المالية الي اضطرار رفع الضرائب في امد قصير، ودون اي اكتراث منه ايضا الي مقترح وجيه وجدي كان يهدف الي تسديد تكاليف تلك الإجراءات البالغة ما يقرب من 12 مليار اورو عن طريق ادخال تعديل في أفق الاعفاءات الضريبيةلسنة 2019 عبر تقليصها من اجل توفير 10 مليار من حجم تلك الاعفاءات البالغة في مجموعها نحو 40 مليار اورو تستفيد منها فئة ارباب العمل.

وفضلا عن هذا يبدو ان هناك تخبط يشمل كيفية تغطية نفقات الإجراءات التحفيزية المذكورة علي مستوي ما يقرب من 6 مليار اورو ، ينضاف اليه 4 مليار اورو التي كان يرتقب القانون المالي لسنة 2019 ان تكون مداخيل ناتجة عن رفع رسوم استهلاك المحروقات ، والتي كانت الفتيل الذي أدي الي اندلاع الحركات الاحتجاجية الواسعة لاصحاب الستائر الصفراء.

ويتجلي من تحليل ردود الفعل المعلنة من مختلف التيارات السياسية الفرنسية ان محاولات الرئيس الفرنسي شراء السلم الاجتماعي عبر تدابيره المعلنة من طرفه لها آثار محدودة، نظرا لطابعها الطبقي الضيق لفائدة الأغنياء، لن تفلح في وقف الاحتجاجات التي تقف وراءها الطبقة المتوسطة والي حد كبير، نظرالمعاناتها المريرة من تراجع اقتصادي مريع، مقابل ارتفاع عدد الفرنسيين الأغنياء، واستحواذهم علي حصص كبيرة من الثروة الوطنية نتيجة تراجع الفرض الضريبي علي هذه الطبقة ، الامر الذي سيؤدي الي احتمال تشكيل جبهة واسعة من المواطنين، يضم النقابات المتهالكة، واليمين المتطرف، واليسار والتيار السياسي الديغولي،، وكلها تيارات واسعة تهيمن علي الطبقة الوسطي ، الامر الذي قد يترتب عنه احتمال حصول أزمة سياسية تعصف بالحكومة القائمة، ولربما لاحقا الي تغيير رئيس الدولة، ووضع حد لتجربة حزبه الذي لم ينتصر في الانتخابات الرآسية سوي بسبب الخشية من فوز المرشحة اليمينية لوبان،وبسبب انهيار الأحزاب التقليدية ،، ولماذا لا نقول بسبب تبخر المخزون الاقتصادي الهائل نتيجة غروب الاستعمار الفرنسي الذي نهب ثروات شعوب متعددة،،بل والي الإطاحة بالجمهورية الخامسة ، وهي مطالب تم الإفصاح عنها الْيَوْمَ بقوة ، في علامة كاشفة علي تحول المطالَب الاجتماعية آلتي كانت في المهد الي مطالب سياسية ، من ضمنها المطالبة بحل البرلمان ، والدعوة الي انتخابات جديدة، والخروج من الاتحاد الاوروبيي .

كل المؤشرات والوقائع والاحداث الجارية حاليا بفرنسا تعكس حالة مزرية للكادحين بفرنسا، والطبقة المتوسطة ، وازمة عميقة تنخر نظامها السياسي ، وترشح استمرار موجة الاحتجاجات الي غد آخر ، في أفق احداث تغييرات لتحقيق هيكلية سياسية مختلفة، ،ذات صبغة اجتماعية أقوي، لربما اقرب الي نموذج الدول الإسكندينافية، من اجل فرض عدالة حقيقية ضد الاحتكار وهيمنة الأوليغارشية.

عبد اللطيف مشبال
← الرجوع إلى جميع المقالات