الرئيـس ترامب و مطالب المحتجين الهادفة الى إصلاح العدالة

نشر بتاريخ

لم تكشف الاحداث التي تلث مقتل جورج فلويد عن واقع التمييز العنصري لان هذا الواقع لم يكن مجهولا رغم ان حقوق الأمريكيين ذوي البشرة السمراء عرفت تطورا ملموسا منذ ستينيات القرن الماضي على اثر الحركات الاحتجاجية ى الواسعة التي قادها عدد من الزعماء السود على رأسهم مارتين لوتير كينغ ، على مستوى القوانين و المجتمع ادت الى القضاء على نظام التمييز العنصري الرهيب الذي كان يمنع بالخصوص الامريكان السود من ولوج المدارس و المطاعم و الفنادق ، مع اتخاذ سلسلة من الإجراءات الملموسة أدت لإخراجهم من عتبة الفقر و البطالة ، و نتج عنها تبوء فئة من هؤلاء لمراكز مرموقة تمثلت في تولي رآسة الولايات المتحدة الامريكية رجل من أصول افريقية ، و كذلك الامر بالنسبة لمنصب وزارة الخارجية المعتبر في المركز الثالث في هرم الدولة .

غير ان هذه الإصلاحات لم تمنع من استمرار ظاهرة العنصرية في المجتمع، و تجلت على وجه الخصوص في المعاملة القاسية و التمييزية التي يتعرض لها هؤلاء المواطنون من طرف أجهزة الشرطة ، فحصلت احداث عنصرية خطيرة في عهد الرئيس أوباما ، الذي تمكن من معالجتها بحنكة و تعقل ، و اتخاذ ادارته إجراءات ملموسة تمثلت في ادخال تعديلات على نظام العدالة امكن بواسطتها اطلاق عدد يفوق ستة آلاف سجين اغلبهم من السود سبق لهم ان قضوا ازيد من تسع سنوات في السجون الامريكية لأسباب لا تكتسب خطورة بالغة ، كما اصلحت ادارته النظام الصحي الذي مكن ، و لأول مرة ، المواطنون السود باعتبارهم الممثلين لأغلبية الطبقات الاجتماعية الأكثر حاجة من الحصول على نظام تأمين صحي، سرعان ما ألغاه الرئيس ترامب اخلاصا منه لعنصريته ، كما ان الرئيس اوباما دعى في السنة الأخيرة لحكمه الى تأسيس لجنة من ذوي المراتب الحقوقية العليا لإعداد نصوص قانونية تضبط عمل جهاز الشرطة و نظام السجون. ان الرئيس ترامب ليس سوى وريث لنظام عنصري يجد جدوره في التاريخ المواكب لتأسيس الولايات المتحدة الامريكية الذي اعتمد فلسفة نفعية تتمحور على أهمية الفرد و وفرة شاسعة من الجغرافيا و النادر من التاريخ حسب الوصف الدقيق للمرحوم محمد حسنين هيكل ، فمقتل جورج فلويد لا يعدو ان يكون ثمرة تاريخ سيادة المواطنين البيض اللذين جلبوا المواطنين السود من افريقيا كعديد كأدوات انتاج ، بعد ان قضوا على السكان الاصليين. غير ان سياسات الرئيس ترامب و تصريحاته التي تفوح منها روح كراهية منقطعة النظير في مواجهة جزء من المواطنين الامريكيين بسبب لونهم صبت النار على الزيت ، و هو ما يتمثل في تهديد المتظاهرين بشتى أنواع العقوبات و حتى عبر الاستعانة بالكلاب عند الاقتضاء او الدعوة الى تدخل الجيش لقمع التظاهرات الحاشدة التي عمت كل ارجاء الولايات المتحدة شرقا و غربا .

في مكالمة مسربة نشرتها صحيفة نيويورك تايمز قال مخاطبا حكام الولايات ” عليكم القبض على هؤلاء الأشخاص و توجيه التهم اليهم ، ان سجنهم لمدة أسبوع لن يؤدي الى نتيجة بينما منهم إرهابيون ” .

و قال في تغريدة على تويتر ” استدعوا الحرس الوطني ، الرعاع و الفاشلين بصدد تقسيم المدينة لأجزاء، لا تكرروا نفس الخطأ القاتل الذي ارتكبتموه مع دور المسنين” . اشارت عدة تقارير صادرة عن مراكز حقوقية مرموقة لمنظمة العفو الدولية الى التعامل التمييزي للعدالة الامريكية مع الأمريكيين من ذوي أصول افريقية و خلصت في احد تقاريرها على نحو مفجع ان العدالة الامريكية تمنح قيمة اقوى لحياة الأمريكي الأبيض على الأمريكي الأسود . و في تقرير المنظمة المذكورة أوضحت ان الولايات المتحدة انسحبت من مجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة لتفادي الادلاء ببيانات عن وضعية حقوق الانسان ، و كما هو معروف ، احتجاجا على اتخاذ المنظمة موقف عادل تجاه الانتهاكات العديدة التي تعرض لها الشعب الفلسطيني من طرف المحتل الاسرائيل. و اخلاصا من الإدارة الامريكية الحالية لنهجها اليميني فقد بعثت رسالة الى المنظمة المذكورة في يوليوز 2019 اشعرتها بكونها تشارك في مساطر الأمم المتحدة المتعلقة بحقوق الانسان اذا كانت تخدم مصالحها الخارجية ، بمعنى انها تستبعد أي تعاون بين الطرفين اذا تعلق الامر بدراسة أوضاع حقوق الانسان في الولايات المتحدة ، و مع ذلك لا تنقطع تلك الإدارة عن الصياح مدعية وقوفها الى جانب قضايا حقوق الانسان في دول معينة لا ترضى بطبيعة الحال على سياساتها بينما تحجب نظرها عن رؤية ممارسات دول أخرى تنتهك حقوق الانسان جهارا.

من اللافت في خضم المظاهرات الجماهرية الواسعة التي شملت الولايات المتحدة الامريكية ان حاكم مدينة “مليو بوليس” انصاع الى ضغط الشارع فتم تعيين السيد كيت ايليسون الوكيل العام بولاية مينوسوتا من طرف حاكمها للتحقيق في قضية مقتل جورج فلويد ، الذي أعاد تكييف الجريمة المنسوبة للشرطي القاتل فتابعه بتهمة ارتكاب القتل من الدرجة الثانية أي القتل غير العمد الذي يعاقب الفاعل بأربعين سنة سجنا كما تابع أيضا رجال الشرطة الباقين الذين لم تطلهم ادنى متابعة بتهمة المشاركة . و هذا دليل واضح على ان العدالة لم تكن لتتحرك في الاتجاه المذكور لولا حشود المتظاهرين و مطالبهم برد الاعتبار للعدالة و معاقبة الشرطة الجناة بسبب أفعالهم الجرمية الحقيقية ، وهو ما يثير تساؤلات جدية حول مغزى عدالة لا تتحرك سوى في هذه الظروف. لقد عبر عن هذا الواقع المرير أحد الشبان السود في تصريح لوكالة الأنباء الفرنسية بقوله ” ان هذه النتيجة تطلبت منا الخروج الى الشوارع و احتلال القناطر و الطرق السيارة للوصول الى العدالة “.

و علاوة على ما سلف ذكره ، فقد تم اتخاذ عدة خطوات لمحاصرة وقع الجريمة الشنعاء بالكيفية المومأ اليها أعلاه، و تم تحميل النظام السياسي و رئيسه مسؤولية ما حدث بسبب دعمه للعنصرية و وقف المجتمع و السلطة في مواجهته و في وجه محاولاته الرامية الى تقسيم المجتمع مثلما أوضح ذلك صراحة وزير الدفاع السابق في تصريح ناري ، كما استعمل السكان حقهم الدستوري عبر مشاركتهم الواسعة في مظاهرات ضخمة نددت بالرئيس و هتفت بشعارات ضده و ضد سياسته العنصرية و تهديداته، و حفلت منابر الاعلام بتغطية واسعة و نقاشات خصبة بمساهمة العديد من الشخصيات الوازنة من جميع الاطياف ( اكاديميين ، عسكريين و دبلوماسيين سابقين ، فنانين و نشطاء …) و تعالت أصوات حتى من صفوف الحزب الجمهوري ضد مواقف الرئيس كما هو عليه الحال بالنسبة للرئيس بوش و الوزير السابق باور و نائب من الحزب الجمهوري و تمحورت حول مسألة جوهرية و هي وجوب اصلاح نظام العدالة و جهاز الشرطة ، و تم كل ذلك في نطاق الإطار الديموقراطي الذي يضمن حرية التعبير و التظاهر بموازاة مع الوعي الكبير الذي عبر عنه المتظاهرون تضامنا مع ضحايا الظلم و لنصره العدالة . فبفضل هذه الحركة الجماهرية الواسعة المناهضة لخطاب الكراهية الذي يغديه المواقف و الخطابات السياسية و الإعلامية و الدينية المتطرفة الملطخة لصورة الانسان الأمريكي غير الأبيض، تجري محاولات حثيثة لإصلاح اعطاب العدالة الامريكية.

وهكذا ، فقد أعلن مؤخرا عن حل جهاز الشرطة بمدينة ” مينيا بوليس ” من طرف حاكم المدينة ، كما أعلن تحرك الديمقراطيين بالكونغريس بغرض تدارس مشاريع قوانين لمناهضة العنصرية و اصلاح أجهزة الشرطة.

و بالفعل فقد تقدم عدد من المشرعين الديمقراطيين يوم الثامن من الشهر الجاري بمشروع قانون لمكافحة العنف و العنصرية من قبل الشرطة ، و قالت بوضوح رئيسة مجلس النواب ” ان تعسف الشرطة يمثل انعكاسا محزنا لنظام الظلم العنصري القديم في أمريكا . لا يمكن تحقيق العدالة الا عن طريق إجراءات شاملة ومتكاملة و هو ما نقوم به اليوم “. و من ضمن التعديلات الهامة التي اتى بها المشروع ما أورده بخصوص ” اجراء تغييرات هيكلية في الشرطة ، بما في ذلك زيادة مسؤولياتها عند تجاوز سلطاتها مع السيطرة على عناصرها “. و في هذا السياق فإن المشروع تضمن مقتضى في غاية الأهمية ، سيسمح عند تبنيه ، إزاحة كل العراقيل امام مقاضاة عناصر الشرطة جنائيا عند الاقتضاء، و السماح بمطالبتهم بدفع تعويضات عبر رفع الحصانة في نطاق قضايا محددة .

و أيضا ، فإن من شان إقرار هذا المشروع ، الحد من تزويد عناصر الشرطة بالأسلحة الحربية ، و سيلزمهم بنصب كاميرات على أجسادهم و كذا على سياراتهم ، و منع مطلق لمناورات الخنق عند احتجاز الاظناء ، الذي ذهب ضحيته جورج فلويد و منع تقسيمهم حسب اصلهم العرقي . و يسهل مشروع القانون المؤلف من 134 صفحة اجراء تحقيقات مستقلة مع مراكز الشرطة التي يرتكب افرادها انماطا من سوء السلوك. في خاتمة المطاف ، يبدو من خلال ما سلف ذكره ، ان هناك محاولات جدية لتجاوز الأوضاع الكارثية التي وصلت اليها الولايات المتحدة الامريكية بفعل السياسات العنصرية المتبعة منذ قرون و التي يعد رئيسها ممثلها الأمين لدوره البارز في تجييش النعرات العنصرية مثلما تدل على ذلك تصريحاته المستفزة اتجاه الملايين من المتظاهرين الذين وجهوا له انتقاداتهم بكيفية مباشرة ، مستعينة ، و لاشك ، بمقترحات الرئيس أوباما التي عبر عنها في كتابه المؤرخ في 03/06/2020 ، وتعد، في اعتقادي المتواضع برنامجا واقعيا لتجاوز الأزمة العميقة الحالية ، بل و مصدر الهام لمشروع القانون المعروض على الكونغرس حاليا المومأ اليه سالفا.

و في هذا الصدد فإن الرئيس أوباما ألح على وجوب ترجمة تطلعات المحتجين الى قوانين و ممارسات مؤسسية محددة، و هو ما لن يحدث سوى بانتخاب مسؤولين حكوميين يستجيبون لتلك المطالب. ثم ألح ، على وجه الخصوص ، على وجوب النضال المشترك للتأكد من أن الولايات المتحدة لديها رئيس ، و كونغريس، و وزارة عدل ، و قضاءا فدراليا ، يعترفون فعلا بالدور السلبي للعنصرية و توفرهم على إرادة لمجابهة هذا الوضع ، مشيرا الى أن العديد من حكام الولايات هم اللذين يعينون معظم رؤساء أجهزة الشرطة و يتفاوضون على اتفاقيات المساومة الجماعية مع نقابات الشرطة ، بينما يقرر محامي الولايات و محامي الدولة بخصوص مدى إمكانية فتح تحقيق مع المتورطين من جهاز الشرطة في ممارسات غير مقبولة و اتهامهم عند الاقتضاء ، علما ان كل هاته المناصب منتخبة ، بل و في بعض الأماكن يتم حتى انتخاب مجالس السلطة العليا للشرطة التي لها الحق في مراقبة سلوكيات رجالها ، غير ان الرئيس أوباما تأسف على عدم اقبال الناخبين لخوض غمار هذه الانتخابات ، مع ان لها تأثير مباشر على قضايا العدالة الاجتماعية.

و من ثم يخلص الى ان احداث تغيير حقيقي لمجابهة العنصرية تستوجب المزج بين الاحتجاج و السياسة معا لرفع مستوى الوعي و الأداء التنظيمي ، و الحرص على انتخاب مرشحين يعملون على الإصلاح ، و فضلا عن هذا و ذاك، فإن تحديد مطالب واضحة بشأن سير العدالة الجنائية و اصلاح الشرطة من شأنه منع المسؤولين المنتخبين من تجاهل مواصلة الإصلاح. و يقترح تشكيل هيئة مستقلة تجري تحقيقات بخصوص كل خروقات مشتكى بها ، و مواصلة تكييف الإصلاحات على مستوى كل جهة سواء أكانت مدينة كبيرة او مجتمع ريفي بواسطة نشطاء و منظمات محلية تتولى القيامة بأبحاث و توعية المواطنين بخصوص افضل السبل لاعتماد الاستراتيجيات المناسبة .

و أخيرا ، فإن الرئيس أوباما ، اقترح على كل مهتم بموضوع اتخاذ الإجراءات الإصلاحية المتطلبة ، الاطلاع على تقرير مرفق بكتابه يشتمل على مجموعة أدوات طورها مؤتمر القيادة حول الحقوق المدنية و حقوق الانسان ، استنادا الى عمل فرقة العمل حول الشرطة في القرن الحادي و العشرين التي قام بتأسيسها عندما كان في البيت الأبيض ، كما اقترح على كل مهتم ولوج موقع مخصص للموضوع في مؤسسة أوباما .

و بكلمات موجزة و دقيقة و مليئة بالأمل انهى الرئيس أوباما كلمته بإعرابه عن تفاؤله من الانخراط المتزايد للشباب في حركة مناهضة العنصرية، مرتقبا ان تكون اللحظة الحالية نقطة تحول في رحلة الأمة الأمريكية للإرتقاء الى المثال الأعلى .

و هكذا يبدو جليا الفرق الشاسع بين الرئيس المذكور و الرئيس الحالي الذي لا يجد في جعبته سوى توزيع الاتهامات الى الغير في مختلف القضايا الكبرى ( الوباء ، الصين ، ايران ، منظمة الصحة العالمية ، المتظاهرين ، و حتى زملائه من الحزب الجمهوري ، مع استثناء إسرائيل بطبيعة الحال ! …) و اتخاذ إجراءات قاسية لخنق انفاس شعوب تقاوم سياسات بلاده و ترغب في تحقيق تنمية مستقلة ، فلم يتمكن عبر سلسلة عريضة من الفشل الذي تميز بها في سياساته من خلق مناخ مناسب لتجاوز إشكالات العنصرية الخطيرة التي يواجهها المجتمع الأمريكي ، حتى ان أحد الصحفيين في صحيفة نيويورك تايمز وصفه مؤخرا بكونه ” كارثتنا الوطنية “.

عبد اللطيف مشبال
← الرجوع إلى جميع المقالات