سيــــادة الــــدول والتحكيـــم التجاري الدولي

نشر بتاريخ

(على هامش رأي محكمة العدل الأوروبية الصادر بتاريخ 30/04/2019)

أصدرت محكمة العدل الأوروبية مؤخرا (بتاريخ 30/04/2019) قرارا يقضي بتوافق بند التحكيم الوارد في اتفاق الاستثمار الحر المبرم بين الاتحاد الأوروبي وكندا المعروف باسم سيتا (CETA) و نظام محكمة الاستثمار المتعلق بكيفية تسوية المنازعات بين البلدان المستضيفة والمستثمرين ، الذي هو جزء من الاتفاق فأضفت صبغة قانونية على كل تحكيم يكون هدفه تسوية نزاع بين المستثمر الذي غالبا ما يكون شركة متعددة الجنسيات ودولة مستضيفة، الأمر الذي من شأنه تمكين تلك الشركات من أدوات ضغط هائلة ضد سياسات أية دولة تهدد مصالحها الخاصة. وبمعنى آخر أضحى من حق أي مستثمر أجنبي حتى المنازعة في صميم سياسات الدولة وفي شتى قراراتها المتخذة بشأن تنظيم القطاعات الأساسية كالصحة والبيئة والشغل وقراراتها ذات المنفعة العامة إذا ما تعارضت مع مصالحه الخاصة مما حاصله الانتقال من السيادة المطلقة للدولة إلى سيادتها المحدودة متى كان هذا الانتقال لا يهم في شيء الأمور السيادية و إنما التنازل عن السيادة في أنشطة الدولة التدبيرية ، ما دام أنها قد سمحت بمقتضى اتفاقيات الاستثمار بالتنازل عن الحصانة القضائية التي تعد من مظاهر السيادة وقبولها تسوية المنازعات بواسطة محاكم تحكيمية دولية تتولى حتى اختصاص رقابة أعمال وقرارات الدولة.

تجدر الإشارة في هذا الصدد أن رأي المحكمة الأوروبية المشار إليه أتى استجابة لطلب استشارة تقدمت به الحكومة البلجيكية بخصوص قانونية الاتفاق المذكور الذي دخل للتنفيذ بشكل مؤقت في سبتمبر 2017 باستثناء الأمور التي جرى بشأنها اللجوء إلى المحكمة سالفة الذكر وذلك على إثر اتفاق تم بين تلك الحكومة مع حكومة منطقة والونيا البلجيكية الناطقة بالفرنسية التي يسيطر عليها الاشتراكيون الذين عارضوا الاتفاقية نظرا لإضعافها القدرات التنافسية للشركات الأوروبية.

ومن المعلوم أن فض النزاعات بين المستثمر الأجنبي والدولة عبر التحكيم أضحت هي القاعدة المعمول بها، سيما في ظل ما يسمى ” اتفاقية ميثاق الطاقة ” التي لم ينضم إليها المغرب بعد و لئن وافق سنة 2012 على الميثاق التي تمنح صلاحية واسعة للمستثمرين لمقاضاة الدولة الجاذبة للاستثمار و الحكم عليها بأداء مبالغ باهضة في العديد من الحالات ، كلما أرادت سن تشريعات للمحافظة على البيئة مثلما حصل بين شركة الغاز و النفط البريطانية “روكهوبر Rockhopper ” التي تقاضي منذ عام 2017 الدولة الإيطالية بسبب رفضها منحها امتياز تنقيب عن الغاز في البحر الأدرياتيكي. رفضت إيطاليا ذلك عقب منع البرلمان أي عمليات تنقيب جديدة عن النفط والغاز قرب السواحل الإيطالية في 2016، وسط مخاوف بيئية ومعارضة محلية قوية للمشروع ، وليس هذا فحسب بل و أيضا تطلب المدعية المذكورة الحصول على تعويضات لا تتعلق فقط بتكاليف الإيقاف البالغة 40 إلى 50 مليون دولار، بل و أيضا الحكم لها كذلك بأداء الدولة الإيطالية لها مبلغ يتراوح ما بين 200 إلى 300 مليون دولار التي كانت لتجنيها لو تمّت الموافقة على حقل النفط التي تقدمت بطلبه.

فأضحى من المعتاد تقديم الشركات المستثمرة لمطالب خيالية في نطاق الاتفاقية المشار إليها التي تحولت الى أداة لاستنزاف ثروات الدول والشعوب إذا ما حاولت فرض سياسات وطنية للحفاظ على ثرواتها وبيئتها مثلما حصل مع إيطاليا وهي الدولة الصناعية المتقدمة.

من المثير للانتباه أنه في الوقت الذي تخلت فيه كندا عن مسطرة التحكيم التي كانت تربطها مع الولايات المتحدة في نطاق ما يسمى باتفاق التبادل الحر بينهما إضافة للمكسيك المبرم في 01/01/1994 ـ الذي تم دفنه في أكتوبر 2018 بضغط قوي من الرئيس ترامب ـ فإن اتفاق C E T A المشار إليه أقر شرط التحكيم كأداة لفض النزاعات بين أطراف هذا الاتفاق الذي تم تصحيحه بمقتضى رأي محكمة العدل الأوروبية المذكور.

من البين أن قرار محكمة العدل الأوروبية له صلة قوية قضايا البيئة التي يتكتل حولها العديد من التيارات السياسية التقدمية التي تناضل بشتى الأشكال ضد تخريب الكرة الأرضية، بينما جزء هام من المعوقات التي تقف ضد هذه المطالب المشروعة تكمن في واقع الأمر في معاهدات الاستثمار الثنائية وقواعد الاستثمار المتضمنة في اتفاقيات التجارة الأوسع نطاقا مثلما هو حال اتفاقية C E T A المذكور.

ذلك أن الطريقة الوحيدة للحفاظ على معدلات ارتفاع درجات الحرارة العالمية المحددة في معاهدة باريز التي وقع إقرارها بتاريخ 15/12/2015 أي أقل من درجتين مئويتين يتطلب تحويل رأس المال من الوقود الأحفوري الى مشاريع خالية من الكربون ، بهدف خفض سريع لانبعاث الغازات الدفيئة التي تسببها الأنشطة البشرية في أفق الفترة ما بين 2025 و 2030 و اتخاذ إجراءات للحد من استهلاك الطاقة

و الاستثمار في مجال الطاقات البديلة أي ترك ما لا يقل عن ثلاثة أرباع احتياطات الوقود الأحفوري المعروفة ، غير أن هذه النتيجة تتطلب بدورها تغيير طريقة توظيف الاستثمارات العالمية للطاقة التي تؤطرها معاهدة ميثاق الطاقة التي تمنح حقوقا هائلة للمستثمرين على حساب البلدان المستضيفة للاستثمارات، وحققت هكذا أرباحا ضخمة الى حد يمكن معه القول ان المصالح الكبرى لهؤلاء المستثمرين تهدد الكرة الأرضية بكارثة حقيقية .

نذكر في هذا السياق، على سبيل المثال ، أن شركة طاقة ” ترانسكا نادا ” رفعت دعوى ضد الولايات المتحدة تأسيسا على اتفاقية ” نافتا ” للمطالبة بتعويض قدره 15 مليار دولار زاعمة أنها خسائر تكبدتها بعد أن رفض الرئيس أوباما منحها إذن لمد خط أنابيب النفط كستون إكس إل ، و هي دعوى تخلت عنها ، رافعتها بعد أن وافق الرئيس الحالي على الترخيص ، و هو أمر مفهوم ما دام أنه قد أعلن عن خروج بلاده من اتفاقية باريز .

في ظل هذا النظام العالمي المتأزم تشتت الشركات الاستثمارية الضخمة المجهودات الجبارة التي أقدم عليها المجتمع الدولي من خلال اتفاقية باريز للمحافظة على المناخ مستعملة في هذا السبيل عدة أدوات قانونية للحفاظ على مصالحها

عبد اللطيف مشبال
← الرجوع إلى جميع المقالات